لقاء الوداع
لقاء الوداع
يعتقد البعض أن الإنسان الذي يعبر عن مشاعره ويخبر الآخرين عما يشعر به ويفكر فيه إنسان ضعيف، على النقيض، إنه إنسان غاية في القوة. أن تخبر إنسانًا تهتم به وبأمره بما تشعر به تجاهه، أيًا ما كان ما تشعر به، شيء في منتهى الشجاعة والجرأة. لم تكن تعتقد أنها تستطيع أن تفعل ذلك. نظرت في عينيه، وأخبرته بمنتهى الصراحة أنها معجبة به، حتى من قبل أن تراه وجهًا لوجه، وأنها كانت تتمنى مقابلته والتعرف عليه عن كثب، وأنها كلما زادت معرفتها به وتعمقت في شخصيته زاد إعجابها به، حتى أنها الآن أصبحت تحبه ولا تتخيل حياتها بدونه. رأت وجهه وهو يتغير على وتيرة كلماتها، من ابتسامة الحياء التي كانت تعلو وجهه في البداية إلى الدهشة، إلى الغموض، إلى الارتباك الذي ملأ وجهه ولفتاته. وعندما أنهت كلماتها كان وجهه شاحبًا، مرتبكًا، ومصدومًا، كأنه رأى شبحًا يقف أمامه ويستعد ليدفعه من أعلى جرف إلى عمق المحيط. فتابعت كلماتها بسرعة ورزانة: لا أخبرك ذلك لأني أنتظر منك ردًا، ولا أعرف حتى لماذا أخبرك، ولكني شعرت بشيء فأردت أن أشاركك إياه. لا أطالبك بأي شيء على الإطلاق، فحبي لك أمر خاص بي وحدي. أنا المسؤولة عنه ولا يُلزمك بشيء. ولا تعتقد أني أنتظر منك مبادلتي المحبة، ولا حتى تقدير مشاعري، فربما أخبرك ذلك لكي أستطيع أن أبتعد عنك، ولا أراك مجددًا. لأني بالتأكيد سوف أندم غدًا على إخبارك بمشاعري، ولن أستطيع عندها أن أراك. ولن أتحمل الغرابة التي سوف تتحول لها صداقتنا، ولذلك سوف أبتعد عنك نهائيًا بقطع السكين لا بانسياب الماء من بين الأصابع. لن أراك، وأعتقد أنك لن تحاول البحث عني وهذا أفضل. (وقبَّلته على وجنته بعمق وهمست في أذنه: "الوداع"، واستدارت ورحلت بسرعة وثبات.) ظل هو واقفًا في ذهول تام، صمت مطبق وفم فاغر. تُرى، لماذا فعلت ذلك؟ لماذا تخبره بحبها وترحل مودعة؟ ماذا تعني؟ كان باستطاعتها أن تخبره بشكل غير مباشر. بل كان باستطاعتها أن تضع الكلمة على شفتيه. أن تجعله ينطق بحبها. ولكن هل يحبها؟! لماذا صمت وذهل بهذه الطريقة؟ لماذا لم يسألها ماذا تعني؟ لماذا لم يوقفها؟ هل صارحتها ألجمته لهذه الدرجة أم جرأتها؟ وهل التصريح بالحب عمل جريء لهذه الدرجة من الصمت الذي سقط به؟ وهل ما صدمه المعلومة أم التصريح بها؟
وسقط في غياهب عقله مفكرًا بصوت مسموع: "من أنا؟ هل أنا ابن القرية التي خرجت منها؟ أم ابن الثقافة والحداثة التي عملت فيها وتعايشت معها؟ هل صدمت لأني الرجل، ولا بد أن تكون زمام الأمور في يدي وبالطبع زمام المبادرة؟ هل فزعت أنها سحبت زمام المبادرة مني؛ أم لأني لم أتوقع أنها تحبني، لم أشعر، لم أفهم! وهل تحبني حقًا، أيُمكن أن تحبني بهذه السرعة؟ أنا لم أتعرف عليها إلا منذ شهور قليلة... كم؟ ستة، سبعة! لا أعرف، ربما أكثر. غريب! لقد تغير إحساسي بالزمن في لحظة! لماذا تبدو ذكرى بعيدة هكذا، أشعر الآن أني أعرفها منذ عقود! هل تحبني أنا! أم تحب صورتي التلفزيونية التي تراها؟ أنا لست هذا الإنسان الهادئ الذي يظهر على الشاشة. إني أستجمع كل قوتي لكي ألجم لجام غضبي وعصبيتي كل يوم. لكي أحافظ على حيادي وموضوعيتي. دائمًا ما أخفي حقيقة آرائي ومشاعري. فكيف تحبني بهذه السرعة؟ وكيف تعرفت على حقيقة شخصيتي؟ ربما لم ترَ إلا ما تحب أن تراه فيّ. ربما تحب الصورة التي رسمتها لي -ليس إلا- خيال صنعته وأحبته وتعمقت في صبغه عليّ. ما هذا؟ هل أتشكك في قدرتها على التعرف على مشاعرها أم أتشكك في نفسي وقدرة أي إنسان على محبتي؟ يا ربي! هل تعوزني الثقة في نفسي؟! أم يملأني الغرور؟ لماذا أخبرتني أنها لا تنتظر مني شيئًا؟! من تظنني؟ لماذا لن تستطيع أن تراني؟ لماذا تعتقد أن الغرابة ستسيطر على صداقتنا؟! هل تظن أنني لن أتفهم مشاعرها، وسوف أنتشي زهوًا بمحبتها لي وأستعرض عضلاتي وهيمنتي الذكورية عليها؟ أم تظن أني سأرى اعترافها محاولة لإلقاء مسؤولية على عاتقي وأني سوف أحاول التهرب منها؟"
فجأة شعر بالإعياء فجلس على أقرب كرسي بالغرفة. "أنا لم أسمع عن امرأة صارحت رجلاً بحبها بكل هذا الوضوح والهدوء. أنا لم أسمع أو أشاهد، والمشاهدة حتى ليست كالمعايشة. أنا لم أواجه مثل هذا الموقف من قبل. ربما أعربت بعض الفتيات عن إعجابهن بي، بعد شهرتي الإعلامية الواسعة على سبيل التعلق بالمشاهير. لكن أن تخبرني امرأة ناضجة ومفكرة بذلك شيء آخر.
تُرى لو كان أحد أصدقائي الإنجليز في مثل موقفي هذا ما يمكن أن تكون ردة فعله؟ إنهم يأخذون الزواج موضع الحذر. فهو زواج العمر ومسؤولية كبيرة تعني التزامه بالإخلاص التام لامرأة واحدة لبقية العمر. لذا لا بد أن يتأكد جيدًا أنه يحبها أيضًا ويرضى أن يخلص لها. أعتقد أنه لو يبادلها الحب لأخذها في أحضانه سعيدًا، وبادلها الاعتراف. ولو كان غير ذلك.. لأخبرها بلطف تقديره لمشاعرها وأخبرها أنه يعتز بها كصديقة.
ولكني لست مثلهم، بارد الطباع، متحرر القلب، هناك الكثير والكثير يقيدني ويؤرقني. إذن ماذا لو كان أحد أصدقائي هنا؟ ما يمكن أن يكون رده؟ ربما يبتسم لو يبادلها المشاعر ويحدد معها ميعادًا للزواج. أو ربما دعاها للفراش. لكن ماذا لو لم يفكر بها؟ ربما أخبرها أنه لا يفكر في الزواج أو ربما ضحك وشكرها على محبتها أو ربما تركها ورحل دون إجابة.
ماذا أفعل الآن؟ لماذا أقيم نفسي ومبادئي وهويتي؟" تساءل بغضب.
"لقد كنت أفكر فيها هي، في مشاعرها هي، في تصرفها هي، لماذا أبحث في قيمي الآن؟"
"يا ربي... أنا تائه مرتبك. وأنا من كنت أظن أنني رأيت واختبرت كل شيء و 'أن لا جديد تحت الشمس' ها أنا ذا أتفاجأ، أصدم، أرتبك، ماذا أفعل الآن؟ مهلاً.... هل قالت الوداع؟ لن أراها بعد اليوم؟ هل تقصد ذلك حقًا؟ هل تفعلها؟ لا، لا لن تفعل. لا، لن تفعلها. من أين لي هذا اليقين؟ هل كنت أشعر أو أعرف حقيقة مشاعرها تجاهي؟ هل رأيت ذلك قادمًا حتى في الخيال ولو مرة؟ إذًا.. كيف أردد ذلك! لا بد أن أوقفها." وانتصب واقفًا. "أين هي؟ أين ذهبت؟ لا بد أن أوقفها وبعد ذلك أفكر ما أقول وماذا أفعل."
خرج من استراحته في الاستوديو وجرى على السلالم إلى الأسفل حتى لهث قلبه وداخ رأسه. نظر من حوله رأى المصعد يشير مؤشره بالهبوط. "تُرى هل هي بداخل هذا المصعد؟" فتح الباب. إنه أحد العاملين في القناة، أصيب بخيبة أمل وقطب جبينه. نظر إليه الرجل بابتسامة ولكنه لم يردها. نظر مرة أخرى من حوله وقع نظره على عامل الأمن. "نعم، أذهب وأسأله هل خرجت من المبنى، ولكن ماذا أقول له؟ هل يعرف العامل اسمها؟ هل يعرف كل زوار الاستوديو؟ بالطبع لا، ولكن، يمكن أن أصفها له." خطى خطوتين باتجاه العامل وهو يفكر: "سوف أذهب وأسأله هل رأيت امرأة تخرج من هنا تلبس.....؟ ماذا كانت ترتدي اليوم؟!" "عجبًا! لا أذكر، كيف لم أنتبه لما كانت ترتدي!" ردد بصوت مسموع حانق: "عبث.... كل ذلك عبث." حرك رأسه في غضب وخرج إلى الشارع، إلى فضاء مدينة الإنتاج الإعلامي، بحث بعينيه لم يرها. "لماذا أبحث هنا؟ لا بد أن أذهب خلفها. أنا أعرف بيتها لقد أوصلتها يومًا إلى منزلها. نعم ألحق بها هناك." ركب سيارته، سار مسرعًا وقلبه يكاد يقفز ويسابقه. ووجد نفسه يجهر بالدعاء: "يا رب، أجدها يا رب ألحق بها." شعر بالدموع تتحرك في عينيه وتحرقها وتفلت من بين الرموش. مسح رموشه بأطراف أصابعه ليرى الطريق أمامه. "ما كل هذا الفزع الذي سيطر عليه عندما طُلَّت تلك الفكرة في رأسه 'أنه لن يراها بعد اليوم. أنها سوف تختفي من حياته إلى الأبد'؟" إنه رأى الموت أكثر من مرة. وتعرض لفزع الموت المحدق، عندما كان يعمل مراسلاً صحفيًا للحروب، قبل أن يقبل بهذا العمل داخل القناة الإخبارية، ليترك العمل الأكثر إثارة وخطرًا على وجه الأرض إلى العمل الأكثر حرجًا وتأثيرًا. فبعد أن كان الجندي المجهول الذي يعمل على خط النار، ولكن في صمت وخفاء. أصبح في وجه المدفع وتحت أعين ورصد الجماهير. وإذا به رغم كل ذلك لم يذرف دمعة واحدة في المواقف الصعبة، وهم كثر. والآن تتحرك دموعه بهذه الحرقة والسرعة. هل أصبح مثلها حساسًا، سريع التأثر، ودموعه قريبة؟ أم أن ما يواجهه الآن أعز على نفسه وأصعب من كل ما واجهه من قبل؟ وانقبض قلبه عندما مرت الكلمة في خاطره مرة أخرى "الوداع". وجد نفسه يجهر بالدعاء: "يا رب يا رب." ولم يعرف ماذا يقول بعدها. ما يجب أن يدعو به ربه. الله أدرى به منه، ويعرف ما يخيفه وما يرجوه. وصل أمام بيتها، نزل مسرعًا. أوقفه البواب أمام المصعد؛ قبل أن يتعرف عليه. "آه، إنه هذا المذيع المشهور الذي رآه مرة مع الساكنة الجديدة،" التي لم يكن يعرف أنها كاتبة ولها حظ من الشهرة. ولكن أنَّى له أن يعرف وهو من يقرأ اسمه بصعوبة؟ فاعتذر البواب منه قائلاً: "لمؤاخذة يا أستاذ، افتكرتك حد غريب. الأستاذة مش هنا، سافرت، سافرت من الصبح."
صدمة أخرى. حدث نفسه: "كيف؟ كيف سافرت منذ الصباح؟ لقد كانت معي منذ دقائق." "كيف عرفت أنها سافرت؟" "أصلها أخذت شنطة هدوم كبيرة معها وأدتني شهرية ثلاث شهور مقدم وقالت لي: (ما تقلقش لو اتأخرت هأبعت لك شهريتك) وطلبت مني أحافظ على شقتها في غيابها شكلها كده مطولة." "هل تعرف إلى أين سافرت؟" "لا والله يا أستاذ. سألتها: (هتسافر فين وترجع إمتى؟) قالت لي: (ما تقلقش على شهريتك مش هتتقطع) وبس. والله ما كنت أقصد الفلوس..." وأخذ البواب يثرثر في الحديث. لكنه لم يسمع منه شيئًا كان غارقًا في أعماق أعماق عقله وتتكرر كلماتها بداخله. جلس في السيارة مشتت الذهن مضطرب القلب: "أين ذهبت؟" يبدو بأنها أعدت كل شيء مسبقًا. ولكن إلى أين؟ خارج مصر أم داخلها؟ هل سبق أن ذكرت السفر أمامه؟ هل أخبرته يومًا بمكان تريد أن تذهب إليه؟ تُرى من يعرف أين هي؟ قفز في رأسه اسم صديقة مشتركة ربما تعرف أين هي. اتصل بها سريعًا، ألقى عليها السلام وسألها باندفاع: "أين سافرت نادية؟ هل تعرفين؟" ردت بتلقائية: "وهل سافرت نادية؟ متى؟ لقد كانت معي من أسبوع فقط." "إذن، لم تخبرك أين سافرت." قالها بحدة وعصبية كأنها أذنبت لجهلها ما يحتاج معرفته. صمتت قليلًا، كأنها تحاول أن تستوعب لماذا يخاطبها بهذا الأسلوب؟! ولماذا يسألها عن نادية؟! ثم سألته بحزم: "ماذا حدث يا أستاذ مصطفى؟" ساد الصمت طويلًا، لم يعرف بماذا يجيب، وشعر برغبة قوية في البكاء. اختنق وأصابته غصة وهو يحاول نطق اسمها. فقال بصعوبة: "لقد تشاجرنا وانزعجت مني جدًا. ولحقت بها إلى منزلها لأعتذر منها فأخبرني البواب أنها سافرت وأكد لي ذلك." "آه،" وتنهدت الصديقة: "ستكون بالتأكيد في بلدها. أنت تعرف أن أهلها من الأقاليم. لا بد أنها عندهم الآن. لا داعي للقلق." شكرها وأغلق الخط سريعًا، مدركًا أن هذه الصديقة لا تعرف شيئًا. ولن تساعده في شيء. ثم أعاد الاتصال بها سريعًا، إذ خطر له أن ربما ظنها صحيح. عندما ردت عليه، بادرها بالاعتذار، ثم دونما انتظار قبوله سألها: "هل تعرفين رقم هاتف أحد من أهلها أو رقم هاتفها الأرضي هناك؟" صمتت قليلًا ثم أجابته بنبرة جافة: "لا، لم أهتم بمعرفة ذلك. طالما معها هاتفها المحمول، لماذا أحتاج أي شيء آخر؟" "لن ترد علي لو اتصلت بها. هذا إن تركت هاتفها مفتوحًا." خاطب نفسه دون النطق، ثم سألها: "هل تعرفين رقم أقرب صديقة لها؟" ضحكت وزفرت، "إنه لا ينتقي كلماته، هذا ليس من عاداته. لا بد أنه في غاية التوتر، إذ يخبرها بشكل غير مباشر أنها ليست مقربة منها." ومع ذلك أعطته رقم صديقة أخرى وقالت: "تلك الصديقة تساعدها في نشر أعمالها، ربما تعرف أين هي الآن." ملأه الأمل، شكرها بلهفة وأغلق الخط. ومن فوره اتصل بالرقم الجديد. "أستاذة مروة، أنا مصطفى جودة، هل تعرفين أين نادية الآن؟" ردت بمرح، جعله يختنق وينزعج. "أهلاً، أهلاً أستاذ مصطفى، هذا شرف كبير و...." فقاطعها: "أشكرك، من فضلك أخبريني أين نادية الآن." "الآن بالضبط لا أعرف." (أصابته خيبة الأمل) ثم استدركت: "ولكنها غدًا تصبح في إيطاليا على ما أعتقد." "ماذا؟! إيطاليا!" اندفعت الكلمة من فمه في تعجب يشبه الصراخ. اعتقدته مروة حماسة منه. قالت ضاحكة: "نعم، مجنونة. لقد قررت أن تعيش في إيطاليا لفترة. تقول: 'لكي تتعلم الإيطالي' تخيل! جنون كتاب ومبدعين." "هل تعرفين متى تقلع طائرتها؟" "اممم.. لا أعرف بالتحديد. لم يخطر ببالي أن أسألها، شغلني أكثر رغبتها المفاجئة في السفر." شكرها وأغلق الخط. وتوقع أنها الآن في المطار. ابتسم "ربما يسعدني الحظ وأجدها" ثم طرقت خاطره فكرة "أتصل بشركة السياحة التي أتعامل معها وأسأل عن رحلات الطيران اليوم." وفعلاً، اتصل بالشركة. "ألو: هل هناك رحلات إلى إيطاليا اليوم؟" أجابته الموظفة: "نعم.." "متى؟" "بعد ثلاث ساعات، هل تريد أن أحجز لك؟ هناك مقاعد فارغة في درجة رجال الأعمال؟" (سألته الموظفة) أجابها: "لست متأكدًا أني سوف أصل في الوقت المناسب." أجابته: "ليس هناك مشكلة، هناك رحلة أخرى منتصف الليل. هل أحجز لك بها؟" "أشكرك، لا داعي." وأغلق الخط، وهو يفكر: "لو خرجت في الصباح بحقيبتها، إذًا فكانت معها عندما كانت عندي. إذًا، لا بد وكان معها سيارة تنتظرها." نظر في ساعته ثم تحرك بالسيارة وهو يقول: "لقد أضعت الكثير من الوقت بحضوري إلى منزلها." تأفف... "لو ذهبت من الاستوديو إلى المطار مباشرة! ربما تكون وصلت الآن. سوف تستغرق حوالي ساعة إلى أن تنهي إجراءات السفر طالما هذه أول مرة لها. إذًا، سوف يتبقى لنا ساعتان انتظار بالتأكيد ستكون في ساحة الانتظار بالمطار - ربما أستطيع اللحاق بها قبل دخول المنطقة المحظورة." ثم تصورها تعبر وينادي عليها فتلتفت وتراه ومع ذلك ترحل فانقبض قلبه. ثم خطر له أن يتصل بأحد معارفه في الجوازات، ليسأل هل اسمها في قائمة المسافرين أم لا. لكي يتأكد ولا يضيع الوقت في احتمال خاطئ. وعلى الرغم من كرهه أن يستغل نفوذه، وأنه بالفعل لم يفعل ذلك من قبل، بل وعاهد نفسه على ألا يفعلها، ولكن ليس له في الأمر حيلة. إنه يكاد يجن. اتصل بالرجل الذي باغته بالتهلل والمديح من أول لحظة، فزاد شعوره بالضيق، لاضطراره على مجاملة الرجل وهو متوتر وضائق الصدر، ثم سأله بلطف حذر: "أحتاج من حضرتك خدمة؟" أجابه الرجل بحفاوة: "حضرتك تأمر يا أستاذ." "هناك إحدى صديقاتي مختفية. وعلمت أنها كانت تنوي السفر اليوم إلى إيطاليا. أريد أن أعرف إذا كان اسمها مسجل اليوم في قائمة المسافرين على الطائرة المغادرة بعد ساعتين إلى روما أم لا..." ثم استدرك: "لكي لا أبلغ السلطات وأصنع ضجيجًا بدون داعي. أريد أن أطمئن هل هي مسافرة أم مختفية." صمت الرجل للحظة ثم قال ببطء: "حضرتك تعلم أن ذلك غير قانوني، ولا يجوز أن أطلعك على مثل هذه المعلومات." ثم قال بمرح: "ولكن لا أستطيع أن أرفض لك طلبًا يا أستاذ مصطفى. خاصة وهذا أول طلب لك. أعطني خمس دقائق وسأعاود الاتصال بك." وأنهى الاتصال.
تمر الدقائق بطيئة. لقد مرت الخمس دقائق وخمس أخرى وأخرى. هل تراجع؟ هل حدث شيء؟ أعصابه تحترق وعندما رن الهاتف رد سريعًا. فبادره الرجل ضاحكًا: "(التليفون في إيدك ولا إيه؟) المهم؛ لقيتها متسجلة. أعتقد أنها في المطار الآن. ربما في ساحة الانتظار. تحب أنادي عليها في الاستعلامات لكي تتحدث معها؟" أجابه بلهفة: "لا، لا داعي، المهم أنها بخير. أشكرك، ألف شكر." "لا داعي للشكر." ثم أخذ يثرثر فيما لم يعيه أو يسمعه مصطفى، فكل تفكيره واهتمامه الآن هو أن يصل إلى المطار. ثم رد ردودًا أوتوماتيكية على الرجل وأغلق الخط. وكان قد وصل إلى طريق المطار فأسرع بالسيارة كأنه في سباق مع الريح. وكان يصبر نفسه بين الحين والآخر. "لو لم ألحق بها هنا، سوف أذهب خلفها إلى روما. لي أصدقاء صحفيون هناك سيساعدونني. لا بد أنها حجزت في أحد الفنادق. سأعود إلى صحافة التحقيقات وسوف أجدها. لي معارف في مصر. أستطيع أن أعرف اسم شركة السياحة التي حجزت لها وأعرف اسم الفندق. لا داعي للقلق سوف أجدها وأراها مجددًا. لن تختفي عني أبدًا أينما ذهبت." ثم جهر بدعائه: "يا رب يا رب." عندما وصل المطار كان الوقت قد حان. لا بد أنها الآن عند مدخل الطائرة. ترك السيارة وجرى جريًا إلى صالة المغادرة. استغل بطاقة الصحافة ليدخل. بحث بعينيه عند بوابة الخروج حيث رأى على لوحة الرحلات مكان رحلتها. كان قلبه ينتفض بشدة وهو يقترب حتى أن جسده كان يرتعش، عندما رآها تأخذ جواز سفرها من أيدي المضيفة على باب الممر. صرخ: "نادية!" فاستدارت ونظرت إليه. ورأى وجهها مندهشًا. ثم لم يرَ شيئًا. ولم يشعر بشيء وأطبق عليه الصمت.
"ما هذا الطنين؟ هل هو رنين هاتفي أم هاتفها؟ لا، ليس رنين هاتف. ما هذا إذًا؟ إنه مزعج." فتح عينيه بصعوبة، كأن فوق أجفانه أكياسًا من رمال. ظلت رموشه ترجف ثم تأكد، إنه وجهها الحبيب. نظر إليها بعتاب. فبادرته: "حمدًا لله على سلامتك." شعر بيدها ممسكة بكفه فضغط عليها وهمَّ بالاعتدال. فوضعت يدها الأخرى على صدره تمنعه من النهوض. "لا، لا استرح، لا تتحرك." أدرك ما حوله. إنه في مشفى وحوله شتى أنواع الأجهزة. تذكر كل شيء دفعة واحدة، فعبس، عاتبها بعيونه، فعبست هي الأخرى، وقالت: "لما كل هذا؟ لقد عشت حياة كاملة من قبل أن تعرفني. وقد تعرفت علي منذ شهور قليلة، ولم نتقابل كثيرًا، لكي تعتاد وجودي، وتتوتر إلى هذه الدرجة لابتعادي عنك." رد بوهن شديد: "بعدما ذهبتِ من أمامي، لم أفكر إلا في أني أريد أن أراك مرة أخرى. وأخذت أبحث عنك في كل مكان، وكلما لم أجدك في مكان، كان يزداد خوفي من عدم رؤيتك مرة أخرى." مررت يدها على خده بنعومة وقالت: "مصطفى، أنا كنت أبتعد عن طريقك فقط وليس من على وجه الأرض كلها." "لقد تملكني هاجس واحد، هو خسارتك، وهذا لم أستطع تحمله. أتعرفين لقد عشت حياتي كلها كأني نائم، لا أشعر بنفسي، حتى أتيتِ اليوم وأخبرتني بمشاعرك. كأنك صفعتني بقوة فأيقظتني من سباتي الطويل. وعندما استيقظت وأدركت من أنا وأين أنا، تركتيني وذهبتِ. فشعرت بالضياع والارتباك. كل همي كان أن ألقاك وأتكلم معك. ماذا أقول، لا أعرف. كل همي كان رؤيتك، ولم أفكر للحظة ما أريد قوله لك." سقطت الدموع من عينيها ووضعت يدها على فمه قائلة: "لا داعي لإجهاد نفسك الآن." قبل يدها فرفعتها عن فمه. فاستدرك. "وعندما رأيتك في المطار تأخذين جواز السفر انخلع قلبي." فعلقت: "يا قلبي!" وضغطت على يده. فأكمل: "بالضبط هذا ما شعرت به، لقد أخذتِ قلبي معك وكنت تهربين به." ابتسمت رغم الدموع، واقتربت منه، وهمست بصوت مبحوح من البكاء: "وهل تريد استرجاعه؟" "نعم أريده وأنتِ به. أريد قلبي مملوءًا بحبك، محمولاً على يديكِ." وضعت يدها على شعره وملست عليه. ونظرت إليه تتأمله في صمت ثم هبَّت واقفة. "سوف أذهب الآن ونكمل حديثنا لاحقًا." وحاولت سحب يدها من يده. فأمسك بيدها وتعالى صوت جهاز قياس نبضات القلب لاضطراب دقات قلبه. فعادت واقتربت منه في قلق: "لا داعي للتوتر، أنا هنا. لن أذهب إلى أي مكان، ولكن سأظل بالخارج. هناك وقت محدد لوجودي معك بالغرفة سوف تراني ثانية ولكن استرح الآن." باغتها: "لماذا؟ لماذا فعلتِ ذلك؟ لماذا صارحتيني وابتعدتِ؟" تنهدت: "لقد اعتقدت أني على هامش حياتك. وكنت أنت كل يوم تتعمق أكثر في قلبي. خشيت على نفسي فأردت الابتعاد. ولكن خشيت أن يتبعني الندم حيثما ذهبت. فأردت أن أقطع الشك باليقين. توقعت ردة فعلك على مصارحتي لك؛ إما أن تتهرب مني بلطف، أو تؤكد لي أني مجرد صديقة لها نفس تفكيرك تستمتع بالحديث معها عن الفن والأدب. وعندما صمت وأصابتك الدهشة، أكدت لي ظني. لم أرد أن أزيد الأمور حرجًا عليك، فذهبت سريعًا لأني كنت واثقة أنك مثلي، لن تستطيع أن تنظر في عيني مرة أخرى. لم أتوقع ما حدث لك." "لقد كدت أجن. وعندما رأيتك في المطار شعرت أن قلبي سيتوقف." ابتسمت له قائلة: "هذا ما حدث بالضبط يا حبيبي. لقد أُصبت بأزمة قلبية. ولذا لا بد أن ترتاح الآن." "لن تتركيني؟" تساءل بلهفة. فأجابته بمرح: "يا حبيبي، كيف أتركك الآن! وقد أصبحنا حديث الجرائد. فلقد صرخت باسمي وفقدت الوعي وأُصبت بأزمة قلبية. ثم صرخت أنا باسمك وهرعت نحوك. وكان مشهدًا لا تخطئه عين. كل من في المطار سمع ورأى. ولم يوفر مسؤول في هذا البلد جهدًا في مكالمتي وتوصيتي عليك. فلا أدري كيف عرف الجميع أن سبب انهيارك هذا هو رحيلي. فلا أجرؤ على تركك الآن. فلم يبقَ إلا الأمم المتحدة أن تبعث لي إنذارًا شديد اللهجة لو تركت مصطفى جودة." ضحك بصعوبة ضحكته المعهودة وتمتم: "الحمد لله." فردت بامتنان: "هذا ما كنا نبغيه، نم الآن وارتاح." فأغمض عينيه وفي ثوانٍ ذهب في سبات عميق. اقتربت منه، طبعت قبلة دافئة عميقة على جبينه وهمست: "لو تعرف مقدار حبي لك، لاطمأن قلبك."
تمت
تعليقات
إرسال تعليق
شكرا على اهتمامكم، يسعدنا أن نستمع الى أرئكم.
لكم حرية التعليق والنقد، ولكن ﻻ تنسى متابعة المدونة .