مملكة القصص والسرديات لقاء الوداع التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لقاء الوداع

لقاء الوداع


يعتقد البعض ان اﻹنسان الذى يعبر عن مشاعره ويخبر اﻷخرين عن ما يشعر به ويفكر فيه إنسان ضعيف ،على النقيض، انه إنسان غاية فى القوة.أن تخبر إنسان تهتم به وبأمره، بما تشعر به تجاهه ،أيا  ما كان ما تشعر به، شيء فى منتهى الشجاعة والجراءة .
لم تكن تعتقد انها تستطيع ان تفعل ذلك.
نظرت فى عينيه، وأخبرته بمنتهى الصراحه. انها معجبة به. حتى من قبل أن تراه وجها لوجه و إنها كانت تتمنى مقابلته والتعرف عليه عن كثب، وإنها كلما زادت معرفتها به وتعمقت فى شخصيته زاد إعجابها به، إلى إنها اﻵن اصبحت تحبه وﻻ تتخيل حياتها بدونه .
رأت وجهه وهو يتغير على وتيرة كلماتها، من ابتسامة الحياء التى كانت تعلو وجهه فى البداية الى الدهشة الى الغموض الى اﻹرتباك الذى ملاء وجهه و لفتاته.
و عندما انهت كلماتها كان وجهه شاحبا مرتبكا و مصدوما، كأنه رأى شبحا يقف أمامه ويستعد ليدفعه من أعلى جرف إلى عمق المحيط.
فتابعت كلماتها بسرعة و رزانة:
ﻻ أخبرك ذلك ﻷني أنتظر منك ردا، وﻻ اعرف حتى لماذا أخبرك، ولكني شعرت بشيء فأردت ان أشاركك إياه. ﻻ أطالبك بإي شيء على اﻹطلاق فحبي لك أمر خاص بى وحدي. أنا المسؤولة عنه و ﻻ يلزمك بشيء. و ﻻ تعتقد أني انتظر منك مبادلتي المحبه، وﻻ  حتى تقدير مشاعري فربما أخبرك ذلك لكي استطيع ان أبتعد عنك، وﻻ أراك مجددا. ﻷني بالتأكيد سوف اندم غدا على إخبارك بمشاعري، و لن استطيع عندها أن أراك. و لن اتحمل الغرابة التى سوف تتحول لها صداقتنا، ولذلك سوف ابتعد عنك نهائيا بقطع السكين ﻻ بأنسياب الماء من بين اﻷصابع.
لن أراك، واعتقد أنك لن تحاول البحث عنى وهذا أفضل.
(و قبلته على وجنته بعمق وهمست فى أذنه :"الوداع" و إستدارت و رحلت بسرعة و ثبات.)

 ظل هو واقفا فى ذهول تام، صمت مطبق و فم فاغر.
ترى، لماذا فعلت ذلك؟ لماذا تخبره بحبها وترحل مودعه؟ ماذا تعنى ؟ كان باستطاعتها أن تخبره بشكل غير مباشر. بل كان باستطاعتها أن تضع الكلمة على شفاهه. أن تجعله ينطق بحبها.

 و لكن هل يحبها !

 لماذا صمت وذهل بهذه الطريقة؟ لماذا لم يسألها ماذا تعني؟ لماذا لم يوقفها؟ هل صارحتها ألجمته لهذه الدرجة أم جرأتها ؟
وهل التصريح بالحب عمل جريء لهذه الدرجة من الصمت الذى سقطت به؟

 وهل ماصدمه المعلومة أم التصريح بها؟


و سقط فى غيابات عقله مفكرا بصوت مسموع:
_من انا؟ هل أنا إبن القرية التى خرجت منها؟ أم إبن الثقافة والحداثة التى عملت فيها و تعايشت معها؟
هل صدمت ﻹني الرجل، و ﻻبد ان تكون زمام اﻻمور فى يدي وبالطبع زمام المبادرة.

 هل فزعت انها سحبت زمام المبادرة منى؛ أم ﻷني لم اتوقع انها تحبني ،لم اشعر ، لم افهم!
وهل تحبنى حقا، أيمكن أن تحبني بهذه السرعة ؟ أنا لم اتعرف عليها إﻻ، منذ شهور قليلة... كم ؟
ستة ، سبعة! ﻻ اعرف ،ربما أكثر.
غريب لقد تغير إحساسى بالزمن فى لحظة!
لماذا تبدو ذكرى بعيدة هكذا، أشعر اﻵن أني اعرفها منذ عقود!
هل تحبنى أنا! أم تحب صورتي التلفزيونية التى ترها؟ أنا لست هذا اﻹنسان الهادئ الذى يظهر على الشاشة. إني استجمع كل قوتى لكي ألجم لجام غضبي وعصبيتي كل يوم.  لكي احافظ على حيادي و موضوعيتي. دائما ما اخفي حقيقة أرائي ومشاعري.

 فكيف تحبني بهذه السرعة؟ وكيف تعرفت على حقيقة شخصيتي؟

 ربما لم ترى إﻻ ما تحب أن تراه في. ربما تحب الصورة التى رسمتها لي _ليس إﻻ_ خيال صنعته و أحبته وتعمقت فى صبغه عليّ .
ما هذا ؟هل أتشكك فى قدرتها على التعرف على مشاعرها أم أتشكك فى نفسي وقدرة أي إنسان على محبتي؟
ياربي ! هل تعوزني الثقة فى نفسى! ،ام يملائنى الغرور .
لماذا اخبرتي انها ﻻ تنتظر مني شيء !
من تظننى؟ لماذا لن تستطيع أن تراني؟ لماذا تعتقد أن الغرابة ستسيطر على صدقتنا ! 

هل تظن انني لن أتفهم مشاعرها، وسوف أنتشي زهوا بمحبتها لي واستعرض عضلاتي وهيمنتي الذكورية عليها.

 أم تظن أني سأرى إعترفها محاولة ﻷلقاء مسؤولية على عاتقي و أني سوف أحاول التهرب منها.


فجأة شعر بالأعياء فجلس على أقرب كرسي بالغرفة.
أنا لم اسمع عن امرأة صارحت رجل بحبها بكل هذا الوضوح و الهدوء.

 أنا لم أسمع أو اشاهد والمشاهدة حتى ليست كالمعايشة. انا لم أواجه مثل هذا الموقف من قبل. ربما أعربت بعض الفتيات عن إعجابهن بي، بعد شهرتي اﻻعلامية الواسعة على سبيل التعلق بالمشاهير. لكن أن تخبرني إمرأة ناضجة و مفكرة بذلك شيء أخر.


ترى لو كان أحد أصدقائي اﻹنجليز فى مثل موقفي هذا ما يمكن أن يكون ردة فعله؟
إنهم يأخذون الزواج موضع الحذر. فهو زواج العمر ومسؤولية كبيرة تعنى إلتزامه باﻹخلاص التام لإمرأة واحدة لبقية العمر. لذا ﻻبد أن يتأكد جيدا أنه يحبها أيضا و يرضى أن يخلص لها. اعتقد أنه لو يبادلها الحب لأخذها فى أحضانه سعيدا، وبادلها اﻹعتراف. ولو كان غير ذلك ..لأخبرها بلطف تقديره لمشاعرها وأخبرها انه يعتز بها كصديقة.


ولكنى لست مثلهم بارد الطباع متحرر القلب، هناك الكثير والكثير يقيدني و يؤرقني .
إذن ماذا لو كان احد اصدقائى هنا ؟ما يمكن أن يكون رده؟ ربما يبتسم لو يبادها المشاعر و يحدد معها ميعاد للزواج.

 او ربما دعاها للفراش.

 لكن ماذا لو لم يفكر بها ؟ ربما اخبرها انه ﻻ يفكر فى الزواج او ربما ضحك وشكرها على محبتها أو ربما تركها و رحل دون إجابة.


ماذا أفعل الآن؟ لماذا اقيم نفسى مبادئى وهويتى!؟ تسائل بغضب.


لقد كنت افكر فيها هى، فى مشاعرها هى، فى تصرفها هى، لماذا أبحث فى قيمي الآن ؟


ياربي... أنا تائه مرتبك. 

و أنا من كنت أظن أنني رأيت و أختبرت كل شيء و 'أن ﻻ جديد تحت الشمس ' ها أنا ذا أتفاجأ ،أصدم ،أرتبك ،ماذا أفعل اﻵن؟
مهلاً .... 

هل قالت الوداع؟

 لن أرها بعد اليوم؟

 هل تقصد ذلك حقا؟ هل تفعلها ؟
ﻻ، ﻻ لن تفعل. ﻻ، لن تفعلها.
من أين لى هذا اليقين ؟ 

هل كنت اشعر أو اعرف حقيقة مشاعرها تجاهي ؟هل رأيت ذلك قادما حتى فى الخيال ولو مرة ؟ 

إذا ..كيف أردد ذلك! ﻻبد أن أوقفها .

وانتصب واقفا.
أين هى؟ أين ذهبت؟ ﻻبد أن أوقفها وبعد ذلك أفكر ما أقول وماذا أفعل.


خرج من إستراحته فى اﻻستديو و جرى على السلالم إلى الاسفل حتى لهث قلبه وداخ رأسه. نظر من حوله رأى المصعد يشير مؤشره بالهبوط. 

ترى هل هى بداخل هذا المصعد، فتح الباب. إنه أحد العاملين فى القناة، أصيب بخيبة أمل وقطب جبينه. نظر اليه الرجل بأبتسامه ولكنه لم يردها. نظر مرة اخرى من حوله وقع نظره على عامل اﻷمن.

 نعم يذهب ويسأله هل خرجت من المبنى، ولكن ماذا يقول له؟هل يعرف العامل اسمها؟ هل يعرف كل زوار اﻹستديو؟ بالطبع ﻻ ولكن، يمكن أن يصفها له، خطى خطوتين بإتجاه العامل وهو يفكر:
سوف اذهب و أسأله هل رأيت إمرأة تخرج من هنا تلبس.....؟
ماذا كانت ترتدى اليوم؟!
عجباً! ﻻ اذكر، كيف لم انتبه لما كانت ترتدى !
ردد بصوت مسموع حانق: عبث.... كل ذلك عبث.
حرك رأسه فى غضب وخرج إلى الشارع، إلى فضاء مدينة اﻷنتاج اﻹعلامى، بحث بعينيه لم يراها.
لماذا ابحث هنا ؟ﻻبد ان اذهب خلفها انا اعرف بيتها لقد اوصلتها يوما الى منزلها.
 نعم ألحق بها هناك.

ركب سيارته، سار مسرعا وقلبه يكاد يقفز ويسابقه. و وجد نفسه يجهر بالدعاء:يارب، أجدها يارب ألحق بها.

 شعر بالدموع تتحرك فى عينيه وتحرقها وتفلت من بين الرموش. مسح رموشه بأطراف اصابعه ليرى الطريق امامه.

 ما كل هذا الفزع الذى سيطر عليه عندما طلت تلك الفكرة فى رأسه 'انه لن يرها بعد اليوم. انها سوف تختفى من حياته الى الأبد '
انه رأى الموت اكثر من مرة. و تعرض لفزع الموت المحدق، عندما كان يعمل مراسلا صحفيا للحروب، قبل ان يقبل بهذا العمل داخل القناة اﻻخبارية، ليترك العمل اﻻكثر أثارة وخطر على وجه اﻻرض الى العمل الأكثر حرجا وتأثيرا.

 فبعد ان كان الجندى المجهول الذى يعمل على خط النار، و لكن فى صمت وخفاء. اصبح فى وجه المدفع وتحت اعين ورصد الجماهير. واذا به رغم كل ذلك لم يذرف دمعة واحدة فى المواقف الصعبة ،وهم كثر.

 والآن تتحرك دموعه بهذه الحرقه والسرعة. هل اصبح مثلها حساس سريع التأثر ودموعه قريبه؟ ام ان ما يواجهه اﻻن اعز على نفسه واصعب من كل ما واجهه من قبل؟

 وانقبض قلبه عندما مرت الكلمة فى خاطره مرة اخرى "الوداع"
وجد نفسه يجهر بالدعاء: يارب يارب.

 و لم يعرف ماذا يقول بعدها. ما يجب أن يدعي به ربه. الله أدرى به منه، ويعرف ما يخيفه وما يرجوه.
وصل امام بيتها نزل مسرعاً. اوقفه البواب امام المصعد ؛قبل ان يتعرف عليه.
"اه انه هذا المذيع المشهور الذى رأه مره مع الساكنة الجديدة"، التى لم يكن يعرف انها كاتبة ولها حظ من الشهرة. ولكن أنّى له ان يعرف وهو من يقرأ اسمه بصعوبة.
فأعتذر البواب منه قائلا: 

لمؤاخذه يا أستاذ افتكرتك حد غريب. اﻻستاذة مش هنا سافرت، سافرت من الصبح.

صدمة اخرى. 

حدث نفسه:" كيف؟ كيف سافرت منذ الصباح؟ لقد كانت معى  منذ دقائق."
-كيف عرفت انها سافرت؟
-أصلها اخذت شنطة هدوم كبيرة معها و ادتنى شهرية تلات شهور مقدم وقالتلى: (متقلقش لو أتأخرت هابعت لك شهريتك) وطلبت منى أحافظ على شقتها فى غيابها شكلها كده مطوله - هل تعرف الى اين سافرت؟
-ﻻ و الله يا أستاذ. سألتها ها تسافر فين وترجع امتى قالتلى: (متقلقش على شهريتك مش هاتتقطع) وبس. والله ما كنت اقصد الفلوس ...واخذ يثرثرالبواب فى الحديث.
لكنه لم يسمع منه شئ كان غارقا فى اعماق اعماق عقله و تتكرر كلماتها بداخله.

جلس فى السيارة مشتت الذهن مضطرب القلب ،اين ذهبت ؟
يبدو بأنها أعدت كل شيء مسبقا. ولكن الى اين خارج مصر ام داخلها؟
هل سبق ان ذكرت السفر امامه؟ هل اخبرته يوما بمكان تريد ان تذهب اليه؟ ترى من يعرف أين هى؟

 قفز فى رأسه اسم صديقة مشتركة ربما تعرف أين هى. اتصل بها سريعا ألقى عليها السلام وسألها بأندفاع: اين سافرت نادية هل تعرفين؟

_ردت بتلقائية: وهل سافرت نادية ؟متى ؟ لقد كانت معي من اسبوع فقط.
_اذن، لم تخبرك اين سافرت.

قالها بحده وعصبية كأنها اذنبت لجهلها ما يحتاج معرفته.
_صمتت قليلاً، كأنها تحاول ان تستوعب لماذا يخاطبها بهذا اﻻسلوب؟! ولماذا يسألها عن نادية! ثم سألته بحزم: ماذا حدث يا استاذ مصطفى ؟
_ساد الصمت طويلا، لم يعرف بماذا يجيب، و شعر برغبة قوية فى البكاء. اختنق واصابته غصة وهو يحاول نطق اسمها.
_فقال بصعوبة: لقد تشاجرنا و انزعجت منى جدا. ولحقت بها الى منزلها لأعتذر منها فأخبرنى البواب انها سافرت واكد لى ذلك.
_اه، وتنهدت الصديقة: ستكون بالتأكيد فى بلدها. انت تعرف ان اهلها من اﻻقاليم. ﻻبد انها عندهم اﻻن. ﻻ داعى للقلق.
شكرها واغلق الخط سريعاً، مدركا ان هذه الصديقة ﻻ تعرف شيء. ولن تساعده فى شيء. ثم اعاد اﻻتصال بها سريعاً. إذ خطر له أن ربما ظنها صحيح. عندما ردت عليه، بادرها باﻻعتذار، ثم دونما انتظار قبوله سألها: هل تعرفين رقم تلفون أحد من اهلها او رقم هاتفها اﻻرضي هناك؟
صمتت قليلاً ثم اجابته بنبرة جافة: 

_ﻻ ، لم اهتم بمعرفة ذلك. طالما معها هاتفها المحمول، لماذا احتاج اى شيء اخر .
"لن ترد علي لو اتصلت بها. هذا ان تركت هاتفها مفتوح ." 
خاطب نفسه دون النطق، ثم سألها:

_هل تعرفين رقم اقرب صديقة لها .

ضحكت و زفرت، "انه ﻻ ينتقي كلماته هذا ليس من عاداته. ﻻبد انه فى غاية التوتر. اذ يخبرها بشكل غير مباشر، انها ليست مقربه منها." ومع ذلك اعطته رقم صديقة اخرى وقالت :تلك الصديقة تساعدها فى نشراعمالها، ربما تعرف اين هى الآن.
ملأه الأمل شكرها بلهفه واغلق الخط.
 ومن فوره اتصل بالرقم الجديد.

-استاذة مروة انا مصطفى جودة هل تعرفين أين نادية الآن؟
ردت بمرح، جعله يختنق وينزعج. 

_اهلاً، اهلاً استاذ مصطفى هذا شرف كبير و....
_فقاطعها اشكرك، من فضلك اخبرينى أين نادية الآن.
_الآن بالضبط ﻻ اعرف.

  (أصابته خيبة اﻻمل)
ثم استدركت 

_ولكنها غداً تصبح فى ايطاليا على ما اعتقد.
_ماذا ايطاليا!

 اندفعت الكلمة من فمه فى تعجب يشبه الصراخ. اعتقدته مروة حماسة منه .
-قالت ضاحكة: نعم، مجنونه. لقد قررت ان تعيش فى ايطاليا لفترة. تقول "لكى تتعلم اﻻيطالى" تخيل! جنون كتاب و مبدعين.
-هل تعرفين متى تقلع طائرتها؟ 
-امم ..ﻻ اعرف بالتحديد. لم يخطر ببالى أن أسألها شغلنى اكثر رغبتها المفاجئه فى السفر. 
شكرها واغلق الخط. وتوقع انها اﻻن فى المطار.
ابتسم " ربما يسعدنى الحظ واجدها" ثم طرقت خاطره فكرة " اتصل بشركة السياحة التى اتعامل معها واسأل عن رحلات الطيران اليوم " و فعلاً، اتصل بالشركة.
-الو: هل هناك رحلات الى ايطاليا اليوم؟
-اجابته الموظفه :نعم ..
-متى؟
-بعد ثلاث ساعات ،هل تريد ان احجز لك هناك مقاعد فارغة فى درجة رجال اﻻعمال؟ ( سألته الموظفه )
اجابها :لست متأكد انى سوف اصل فى الوقت المناسب 
-اجابته: ليس هناك مشكلة هناك رحلة اخرى منتصف الليل. هل احجز لك بها؟
_اشكرك، لا داعي.
واغلق الخط، و هو يفكر. لو خرجت فى الصباح بحقيبتها اذن فكانت معها عندما كانت عندى. اذن، ﻻبد و كان معها سيارة تنظرها .
نظر فى ساعته ثم تحرك بالسيارة وهو يقول: لقد اضعت الكثير من الوقت بحضوري الى منزلها: تأفف... لو ذهبت من الاستديو الى المطار مباشرة! 
ربما تكون وصلت الآن. سوف تستغرق حوالى ساعة إلى ان تنهى إجرائات السفر طالما هذه أول مرة لها. اذن، سوف يتبقى لنا ساعتين انتظار بالتأكيد ستكون فى ساحة اﻻنتظار بالمطار -ربما استطيع أللحاق بها قبل دخول المنطقة المحظورة.
ثم تصورها تعبر وينادى عليها فتلتفت و تراه ومع ذلك ترحل فأنقبض قلبه.
ثم خطر له ان يتصل بأحد معارفه فى الجوزات، ليسأل هل اسمها فى قائمة المسافرين ام ﻻ. لكي يتأكد وﻻ يضيع الوقت فى احتمال خاطئ. وعلى الرغم من كرهه ان يستغل نفوذه. وانه بالفعل لم يفعل ذلك من قبل، بل وعاهد نفسه على ان ﻻ يفعلها، ولكن ليس له فى اﻻمر حيلة. انه يكاد يجن. 

 اتصل بالرجل الذى باغته بالتهلل والمديح من أول لحظة، فزاد شعوره بالضيق، للاضطراره على مجاملة الرجل وهو متوتر وضائق الصدر، ثم سأله بلطف حذر:

 _أحتاج من حضرتك خدمة؟
_اجابه الرجل بحفاوة: حضرتك تأمر يا استاذ.
_هناك احدى صديقاتى مختفية. وعلمت انها كانت تنوي السفر اليوم الى ايطاليا. اريد ان اعرف اذا كان اسمها مسجل اليوم فى قائمة المسافرين على الطائرة المغادرة بعد ساعتين الى روما ام ﻻ ...ثم استدرك  لكى ﻻ ابلغ السلطات و اصنع ضجيجا بدون داعي. أريد أن اطمئن هل هى مسافرة ام مختفية.
_صمت الرجل للحظة ثم قال ببطء: حضرتك تعلم ان ذلك غير قانوني. وﻻ يجوز أن اطلعك على مثل هذه المعلومات.
ثم قال بمرح: ولكن ﻻ استطيع ان ارفض لك طلب يااستاذ مصطفى. خاصة وهذا اول طلب لك. اعطني خمس دقائق وسأعاود اﻻصال بك و انهى اﻻتصال.


تمر الدقائق بطيئة. لقد مرت الخمس دقائق وخمس اخرى واخرى. هل تراجع ؟ هل حدث شئ ؟ اعصابه تحترق وعندما رن التليفون رد سريعاً.
فبادره الرجل ضاحكا:

_ (التليفون فى ايدك وﻻ ايه) المهم؛ ﻻقيتها متسجله. اعتقد انها فى المطار الآن. ربما فى ساحة الانتظار. تحب انادي عليها فى اﻻستعلامات لكى تتحدث معها .
_اجابه بلهفة: ﻻ، ﻻ داعى المهم انها بخير. اشكرك، الف شكر .
-ﻻ داعى للشكر
ثم اخذ يثرثر فيما لم يعيه او يسمعه مصطفى، فكل تفكيره واهتمامه الآن هو ان يصل الى المطار. ثم رد ردودا اوتوماتيكية على الرجل واغلق الخط.  وكان قد وصل الى طريق المطار فأسرع بالسيارة كأنه فى سباق مع الريح. وكان يصبر نفسه بين الحين والأخر.
- لو لم ألحق بها هنا، سوف اذهب خلفها على روما. لي اصدقاء صحفيين هناك سيساعدوني. ﻻبد انها حجزت فى احد الفنادق. سأعود الى صحافة التحقيقات وسوف اجدها. لي معارف فى مصر. استطيع ان اعرف اسم شركة السياحة التى حجزت لها واعرف اسم الفندق. ﻻ داعى للقلق سوف اجدها و أرها مجدداً. لن تختفى عنى أبداً اينما ذهبت. 

ثم جهر بدعائه: يارب يارب.
عندما وصل المطار كان الوقت قد حان. ﻻبد انها الآن عند مدخل الطائرة. ترك السيارة وجرى جرياً الى صالة المغادرة. استغل بطاقة الصحافة ليدخل. بحث بعينيه عند بوابة الخروج حيث رأى على لوحة الرحلات مكان رحلتها. كان قلبه ينتفض بشدة وهو يقترب حتى ان جسده كان يرتعش، عندما رأها تأخذ جواز سفرها من ايدي المضيفة على باب الممر.
صرخ :

_نادية. فأستدارت ونظرت اليه. ورأى وجهها مندهش. ثم لم يرى شئ. ولم يشعر بشئ و أطبق عليه الصمت.

ما هذا الطنين؟ هل هو رنين هاتفي ام هاتفها؟ ﻻ ليس رنين هاتف. ما هذا اذن؟ انه مزعج.
فتح عينيه بصعوبه، كأن فوق اجفانه أكياس من رمال. ظلت رموشه ترجف ثم تأكد، انه وجهها الحبيب. نظر إليها بعتاب. فبادرته: 

_حمدا لله على سلامتك.
شعر بيدها ممسكه بكفه فضغط عليها وهم باﻻعتدال. فوضعت يدها اﻻخرى على صدره تمنعه من النهوض.
-لا، لا استرح، ﻻ تتحرك.
أدرك ما حوله. انه فى مشفى وحوله شتى انواع اﻻجهزه. تذكر كل شيء دفعة واحدة، فعبس
، عاتبها بعيونه ،فعبست هى اﻻخرى، وقالت: 

_لما كل هذا؟ لقد عشت حياة كاملة من قبل أن تعرفني. وقد تعرفت علي منذ شهور قليلة، ولم نتقابل كثيراً، لكي تعتاد وجودي، وتتوتر الى هذه الدرجة للإبتعادي عنك.

رد بوهن شديدأ:

_ بعدما ذهبتي من أمامي، لم افكر إلا في أني، أريد أن أراك مرة اخرى. واخذت ابحث عنك فى كل مكان، وكلما لم اجدك فى مكان، كان يزداد خوفي من عدم رؤيتك مرة اخرى .
مررت يدها على خده بنعومه وقالت :

_مصطفى، انا كنت ابتعد عن طريقك فقط و ليس من على وجه الأرض كلها .
-لقد تملكنى هاجس واحد ،هو خسارتك، وهذا لم استطيع تحمله. أتعرفين لقد عشت حياتي كلها كأني نائم، ﻻ اشعر بنفسي، حتى أتيتي اليوم واخبرتني بمشاعرك. كأنك صفعتني بقوة فأيقظتني من سباتي الطويل. وعندما استفقت وادركت من انا وأين انا. تركتيني وذهبتي. فشعرت بالضياع واﻻرتباك. كل همي كان أن ألقاك واتكلم معك. ماذا اقول، ﻻ أعرف. كل همي كان رؤيتك، ولم أفكر للحظة ما أريد قوله لك.
سقطت الدموع من عينيها ووضعت يدها على فمه قائلة :

_ﻻ داعي ﻹجهاد نفسك الآن.
قبل يدها فرفعتها عن فمه. فأستدرك.
-وعندما رأيتك فى المطار تأخذين جواز السفر انخلع قلبي.
_فعلقت: يا قلبي وضغطت على يده.
_فأكمل، بالضبط هذا ما شعرته، لقد اخذتي قلبي معك وكنت تهربين به.
أبتسمت رغم الدموع، واقتربت منه، وهمست بصوت مبحوح من البكاء :

_وهل تريد استرجاعه؟

-نعم أريده وانت به. أريد قلبي مملؤاً بحبك، محموﻻ على يديك.
وضعت يدها على شعره وملست عليه. ونظرت اليه تتأمله فى صمت ثم هبت واقفه. سوف اذهب الآن ونكمل حديثا ﻻحقاً. وحاولت سحب يدها من يده. فأمسك بيدها وتعالى صوت جهاز قياس نبضات القلب لإضطرب دقات قلبه .
فعادت واقتربت منه فى قلق: 

_ﻻ داعى لتوتر، انا هنا. لن اذهب الى أي مكان، ولكن سأظل بالخارج. هناك وقت محدد لوجودى معك بالغرفة سوف ترانى ثانية ولكن استرح الآن .
باغتها :

_لماذا ؟لماذا فعلتى ذلك؟ لماذا صارحتيني وابتعدتي ؟
تنهدت :

_لقد اعتقدت اني على هامش حياتك. وكنت انت كل يوم تتعمق اكثر فى قلبي. خشيت على نفسي فأردت اﻻبتعاد. ولكن خشيت أن يتبعني الندم حيثما ذهبت. فأردت أن اقطع الشك باليقين. توقعت ردت فعلك على مصارحتي لك ؛إما أن تتهرب مني بلطف، او تؤكد لي أني مجرد صديقة لها نفس تفكيرك تستمتع بالحديث معها عن الفن واﻻدب. وعندما صمت واصابتك الدهشة. اكدت لي ظني. لم أريد أن ازيد الأمور حرجاً عليك، فذهبت سريعا لأني كنت واثقة أنك مثلي، لن تستطيع أن تنظر فى عيني مرة اخرى. لم أتوقع ما حدث لك.
_لقد كدت أجن. وعندما رأيتك فى المطار شعرت ان قلبي سيتوقف.
ابتسمت له قائلة: 

_هذا ما حدث بالضبط يا حبيبي. لقد اصيبت بأزمة قلبية. ولذا ﻻبد ان ترتاح الآن.
_لن تتركيني ؟ تسائل بلهفه.
فأجابته بمرح: 

_يا حبيبي، كيف اتركك الآن! وقد اصبحنا حديث الجرائد. فلقد صرخت باسمي وفقدت الوعى واصيبت بأذمة قلبية. ثم صرخت انا بأسمك و هرعت نحوك. وكان مشهد ﻻ تخطئه عين. كل من فى المطار سمع و رأى. ولم يوفر مسؤول فى هذا البلد جهد فى مكالمتي و توصيتي عليك. فلا أدري كيف عرف الجميع ان سبب إنهيارك هذا، هو رحيلي. فلا أجرؤ على تركك الآن. فلم يبقى إلا اﻻمم المتحدة أن تبعث لى إنذار شديد اللهجة لو تركت مصطفى جودة .
ضحك بصعوبة ضحكته المعهوده وتمتم :الحمد لله .
فردت بأمتنان:
 هذا ما كنا نبغي، نم الآن وارتاح .

فأغمض عينيه و فى ثواني ذهب فى سبات عميق.
أقتربت منه، طبعت قبلة دافئة عميقة على جبينه وهمست: لو تعرف مقدار حبي لك، ﻷطمأن قلبك.
تمت
صفاء اسماعيل

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مملكة القصص والحكايات ( الجزء الاول)

  مملكة القصص مملكة القصص والحكايات  ( الجزء الأول) كان ياما كان في سابق العصر والأوان، في مملكة القصص الغامضة، حيث تلاشت الحدود بين الواقع والخيال، كانت هناك مكتبة لا مثيل لها، لم تكن هذه المكتبة مجرد مستودع للكتب؛ لقد كانت كيانًا حيًا يتنفس، عبارة عن سلسلة من الحكايات والأحلام والذكريات المنسية. كانت المكتبة تقع في قلب المملكة، وأبراجها الشاهقة تصل نحو السماء. وزيّنت جدرانها بالجداريات التي تصور مشاهد من الملاحم القديمة، والأسرار الهامسة، وضحكات الأطفال السارحة في صفحات قصصهم المفضلة. كان الهواء في الداخل مثقلًا برائحة الورق والحبر والوعد بالمغامرة. في هذا الملاذ السحري، لم يكن أمين المكتبة إنسانًا عاديًا، كانت اسمها ليرا، وكانت تمتلك القدرة على الدخول في الروايات ذاتها التي ألّفتها، كلما فتحت كتابًا، دخلت عالمه، وصارت جزءًا من نسيجه، يمكنها التحدث مع التنانين، والرقص مع الجنيات، والمبارزة مع القراصنة المتعجرفين - كل ذلك داخل حدود المكتبة. في أحد الأيام، عثر مسافر مرهق يُدعى إيمون على مملكة القصص. اتسعت عيناه وهو يدخل القاعة الكبرى، حيث امتدت الرفوف إلى ما لا نهاية في كل ا...

بعض الظن قصة قصيرة

سوء الظن يورث الندم جلس كعادته بالقهوة على الرصيف ليتابع النساء العابرات بالشارع،  ليتغزل بهن  بعبارات خارجة احياناً طلب الشاي ووضع ساق على الاخرى واتكأ على الكرسي بتعالي، مرت من امامه بهية الطلة اعتدل  في جلسته، رمى كلمتين غزل، لم تلقِ له بال، لكنه هب واقفاً وضع الحساب تحت الكوب نصف الممتلئ، وهرول خلفها الى الشارع الضيق.  تلبس عباءة ضيقه وتتحدث في الهاتف المحمول ودخلت الممر، لابد وأن هذه دعوة للحاق بها، إتبع ظنه أسرع الخطى ليقترب منها بينما هدّأت هي من مشيتها، سمع  حديثها فتصنت، _لم  تصل الحوالة، هذه هي المرة الثالثة ولم تصل ... انا لا اكْذّبك لكنها لم تصل ونفذ كل ما معي ولم أجد عمل بعد ... ارتفع صوتها: لا، لن اطلب من أهلي مال، كفى، ألست زوجي و نحن مسؤوليتك ... أنا لا اتشاجر، لكن لم يعد معي ما أطعم به أبنائِك ولا أجد عمل ... وقفت واحتد صوتها: انت الذي لا يُقّدر ولا يشعُر انت تعلم أني مريضة و لقد تورم جسدي من العلاج ولم تعد ملابسي تناسبني ، أنا ألبس عباءة امي ماذا أفعل أنا؟  الو ...الو استدارت  رأى الدموع تملأ وجهها  ثم عادت واكملت طريقها بين...

مملكة القصص والحكايات ( الجزء الثاني)

  مملكة القصص ( الجزء الثاني)   قد تتساءلون أعزائي القراّء  الآن  عما حدث لليرا بعد رحيل إيمون. يبقى مصير ليرا محاطًا بالغموض، تمامًا مثل الممرات المخفية داخل **مملكة الحكايات**. بعد مغادرة إيمون، واصلت دورها كحارسة للمكتبة، تعتني بالكتب القديمة وترشد الأرواح الضائعة التي تتعثر عند عتبة المكتبة. يقول البعض إن ليرا لم تكن مجرد أمينة مكتبة؛ بل كانت تجسيدًا للحكايات نفسها. عندما كان يكتمل القمر، كانت تختفي في الصفحات، وتصبح جزءًا من السرد الذي تعشقه. ربما كانت ترقص مع **بيتر بان** في نيفرلاند، تهمس بالأسرار إلى **شيرلوك هولمز**، أو تبحر جنبًا إلى جنب مع **سندباد البحار** عبر البحار غير المستكشفة. يدعي آخرون أن ليرا كانت رحّالة، تسعى دائمًا وراء حكايات جديدة لتضيفها إلى مجموعة المكتبة. كانت تسافر عبر العوالم الخيالية والمألوفة، تجمع شظايا الأساطير المنسية و تنسجها في نسيج الوجود. كانت عيناها تحملان حكمة العصور، وضحكتها تتردد في الممرات، ملهمةً الكُتاب والحالمين على حد سواء. لكن هناك شائعات —بيت مخفي في أغنية قديمة—يتحدث عن الفصل الأخير. يحكي عن أن يوم ما ستغلق ليرا **كتا...